القديس مارون الناسك في التاريخ
القديس مارون الناسك في التاريخ
أخبار الحروب الطاحنة والمدمّرة للمدن والممالك كانت الموضوع الأهمّ للبحث والتأريخ. كتب المؤرخون القدامى كثيراً عن هذه الحروب بأسلوب ملحميّ، ودوّنوا حياة كبار القادة والملوك والأباطرة ومآثرهم.
ولأنّ مارون الكاهن الناسك لم يكن لا ملكًا ولا إمبراطورًا ولا قائدًا فاتحًا، فلا عجب أن تكون المصادر والمستندات القديمة حول حياته نادرة جدًا. لم نجد في أقوال معاصريه إلاّ الإشارة المقتضية والتلميح العابر والشّهادة الموجزة عن حياة قضاها هادئة رتيبة. راهب شاء أن يعتزل الناس، قبل ستة عشر قرنًا، فلم يحدث في محيطه أثرًا ماديًا صاخبًا. وهل يحقّ لنا أن نطمع بأكثر من ذلك؟!
مصادر البحث
لن يجد المؤرخ في كتابات المعاصرين لأبي الطائفة المارونيّة ما يروي غليله من أخبار وروايات عن شخصه ومآثره، حول تنسّكه وإيمانه وقداسته. تلك الإشارات والتلميحات والشّواهد على حياته تحتاج الى درس وتمحيص قبل الاستناد إليها لبلوغ الهدف المنشود.
حفظ لنا التاريخ المعاصر لأبي الكنيسة المارونيّة شهادتين أساسيّتين عن شخصيّة هذا القدّيس وحياته وأعماله. الأولى هي رسالة بعث بها القدّيس يوحنّا فمّ الذّهب من منفاه في مقاطعة كوكوزا من بلاد أرمينيا حوالى العام 404 أو 405، إلى مارون الكاهن الناسك.. «إنّها شهادة تعلن أنّ البطريرك القدّيس كان يعرف الناسك مارون معرفة شخصيّة ويقدّر تقواه وفضائله فيطلب إليه من منفاه، أن يذكره في صلواته. ويأسف لعدم استطاعته أن يزوره شخصيًا.
الشّهادة أو الوثيقة الثانية، وهي الأهمّ، دوّنها ثيودوريتوس أسقف قورش (423 ـ 458) نحو السنة 430 في كتابه «تاريخ أصفياء الله». وهي تفوق الأولى تعمّقـًا في درس حياة القدّيس مارون وأسلوب نسكه وأثره الرّوحيّ الكبير في تلاميذه وتلميذاته. لقد خصّص الفصل السّادس عشر للحديث عن مارون الناسك، ونوّه به وبأسلوب نسكه المميّز، في الفصول المخصَّصة لبعض تلاميذه، مثل يعقوب القورشيّ وليمناوس، ولصديقه الناسك زيبيناس.
يقول أسقف قورش عن مآثر مارون: «كان زينة في خورس القدّيسين الإلهيِّين. وكان، حبًّا بالحياة تحت قبّة السّماء، قد اتّخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين، حيث كان هيكل للشياطين. فحوّل ما فيه إلى عبادة الله. ثمّ ابتنى لنفسه صومعة حقيرة يلجأ إليها في ظروف نادرة. وكان لا يكتفي بممارسة الأتعاب الشّاقة، بل كان يفطن أيضًا لجذب الكثيرين إلى المزيد من أعمال الحكمة. وكان الذي يكافئ على الأتعاب يغمره بالنعمة».
كل مَن أراد الكلام على الكاهن الناسك مارون لا بدّ له من الرّجوع إلى ما رواه تيودوريتوس المؤرّخ. هنا نورد بعض النصوص متذوقين ما فيها من نكهة البساطة وعمق التأثير. كتب، وقلبه يهتزّ فرحاً وحبوراً بازدهار ثمار التقوى في بستان أبرشيّته الواسعة الأرجاء: «من ثمّ فإن موزّع الخيرات بسخاء كان يغدق عليه موهبة الأشفيّة حتى ذاع صيته في كلّ مكان واستجلب إليه الجموع حيثما وجدوا. ونظراً لشهرته هذه، كان في أثناء عمله يرشدهم الى التعليم الحقّ. فكان يرى الأوبئة تزول بندى بركته والشياطين يهربون وكلّ أنواع الأمراض المختلفة تعالج بدواء واحد، فإن الذين يتعاطون الطب يعالجون كلّ داء بدواء خاصّ. أما صلاة القدّيسين فهي علاج عامّ للأسقام كلّها.
«وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان أيضاً يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافيًا هذا من داء البخل، وذاك من الغضب، مانحاً هذا التعليم المؤدّي الى الحكمة، وواضعًا لذاك الإرشادات إلى الفضيلة، مروّضاً ميوعة هذا ومنعشاً ذاك من كسله».
نفهم من هذا النص أنّ مارون النّاسك، فضلاً عن قداسة السِّيرة وُهِب حكمة عظيمة جعلت منه مرشدًا للنفوس. تقشّفاته الكثيرة ومواعظه وموهبة الشّفاء التي امتاز بها جعلت الناس يتوافدون إليه من بعيد.
وما أكثر التلامذة، رجالاً ونساء، وقد جذبتهم حياة مار مارون فأرادوا السَّير على خطواته. فالتفّوا حوله في مغاور وكهوف وصوامع، ينتظرون تفقـُّده إيّاهم فيصغون بلهفة إلى عِظاته وإرشاداته «الموجّهة الهادية في مجاهل الحياة النسكيّة».
وآخر ما ورد من كلام أسقف قورش عن مارون هو الحديث عن مرضه وموته ودفنه: «انتابه مرض بسيط أودّى بحياته، ذلك لكي نفهم ضعف الطبيعة البشريّة وقوّة إرادته. وقام نزاع شديد بين القرى المجاورة رغبة من كلّ منها في الاستيلاء على جثمانه. لكنّها كانت هناك على الحدود بلدة كثيرة الرّجال اقبلت بأسرها وبدّدت الآخرين وانتزعت منهم الكثير المرغوب فيه جداً فشيّدوا له عندهم مقاماً فخماً. وهم منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا ينعمون بمنافعه، فيكرّمون هذا المظفر العظيم بمهرجان شعبي. ولكنّنا نحن أيضًا وعلى الرّغم من ابتعاده عنّا لا نزال ننال بركته لانّنا نحن نحتفظ بذكراه عوضاً عن قبره. وهذا يكفي. ومن المتفق عليه أنّه انتقل إلى دنيا الحقّ حوالي السنة 410 استنتج المؤرخون ذلك من مقارنة الحوادث والنصوص التي تشير إليه.
المعطيات التاريخيّة والجغرافيّة وعلم الآثار
لكي نفهم جيدًا حياة مارون ومآثره من الضروريّ أن نكوّن فكرة واضحة عن المعطيات التاريخيّة والجغرافيّة المرتبطة بها. الوثيقة التاريخيّة التي قدّمها المؤرخ تيودوريتوس. كما ذكر آنفا، تكاد تكون المصدر الوحيد الذي نستند إليه في دراسة حياة القدّيس مارون.
إلّا أنّ هذه الدّراسة رغم قيمتها التاريخيّة وغناها الروحيّ ووضوح دلالتها التقويّة، فهي تكاد تكون خالية من المعطيات والمعلومات الجغرافيّة التي نعتبرها اليوم ضروريّة جدًّا لكلّ بحث تاريخيّ أو اركيوليجيّ أو وثائقيّ عميق.
هنا يجب الاستدراك أنّ أسقف قورش لم يكن قصده الكتابة للاجيال المقبلة، ولذلك لم يعمد إلى التدقيق في المعلومات الجغرافيّة والمواقع والأمكنة التي كان معاصروه على معرفة بها هدفه الأساسيّ كان تعزيز وإنعاش عواطف التقوى وحبّ الأمانة والتقشّف في نفوس أبناء أبرشيّته. لذا اكتفى بأن يصنع تذكارًا لمن كان زينة في خورس القدّيسين الإلهيّ، ويقدّمه مثالا حيًّا لكي يقتدي به المؤمنون. فلا عجب إذا أن نلاحظ بعض التباين في آراء المؤرخين حول الأمكنة الجغرافيّة التي لها بعض العلاقة بحياة مارون وموته والمكان الذي دُفن فيه، حسبما ألمح المؤرّخ تيودوريتوس.
لا بدّ اذا أن نتساءل: أين تنسّك القديس مارون؟ وأين مات ودُفن؟
التاريخ وعلم الآثار يوجهّان إلى نتيجة واقعيّة إيجابيّة. خلاصتها أنَّ مارون تنسّك على الجبل المدعو اليوم جبل سمعان، نسبة الى دير مار سمعان العاموديّ الذي يقع عند طرفه الجنوبيّ الغربيّ. الجبل الذي كان يسمى قديماً جبل «نابو» أو «ئبو». وهذا ثابت من نصّ نقله «كلرمون- غانو» عن مخطوطة عربيّة في مكتبة لايدن حيث ذُكر: «كان في هذا الجبل المدعو اليوم «سمعان» والذي عُرف سابقاً باسم جبل ئبو (أو نابو) صنم يكرّم في المحلّة المدعوة اليوم كفربنو - والمباني الموجودة اليوم في هذا الجبل هي أبنية متروكة عن عابدي هذا الصّنم الذين كانوا يقيمون هناك.
أمّا اسم الجبل بالسُريانيّة فكان «ينبو» أو «يمبو» كما أوضح عالم الآثار ليثمن في تحليله لكتابة سريانيّة عثر عليها في كفرنبو. وهذا الاسم «ئبو» أو «نابو» الذي اشتقّ منه إسم المكان المذكور، هو إسم «إله» أشوري انتشرت عبادته من بلاد ما بين النهرين إلى سوريا. واحد من هياكله في سوريا ذاك الذي شُيّد في كفربنو.
وتحوّل هذا الهيكل إلى كنيسة في أواخر القرن الرّابع، بحسب شهادة عالم الآثار بوتلر. وآثار هذه الكنيسة لا تزال ظاهرة حتى ايّامنا. إنّها قطع أعمدة وتماثيل باقية من الهيكل الوثنيّ. وترك لنا بوتلر وصفاً دقيقاً شاملاً في دراسته عن الهيكل والكنيسة معًا.
أين دفن الناسك مارون؟
عرفنا سابقـًا أنّه لمّا مات الكاهن الناسك مارون قام نزاع شديد بين القرى المجاورة رغبة في الاستيلاء على جثمانه. لكنّ سكان بلدة قريبة وكبيرة حضروا معًا وهزموا الآخرين وانتزعوا منهم ذلك الكنز المرغوب فيه جدًّا. دفنوه بالإجلال والإكرام. ثم كرّموه سنوياً باحتفالات مهيبة.
لقد أجمع المؤرخون وعلماء الأثار على أن تلك المدينة هي براد التي كانت كبيرة في القرنين الرابع والخامس وعاصمة مقاطعة واسعة. وكنيستها الكبرى بنيت في اوائل القرن الخامس. وهي تحتوي على معبد خاص شُيد بعد بناء الكنيسة بزمن قليل لايواء جثمان كاهن في ناووس. كلّ المعطيات التاريخيّة والجغرافيّة والأركيولوجيّة تدفعنا إلى الاعتقاد أنّ هذا الكاهن هو مار مارون نفسه قد تنسّك مات على جبل سمعان ودفن في كنيسة مدينة براد القريبة إلى قرية كفرنبو.
الأب اميل إدّه